لطائف قرآنية .. الفرق بين النِّعمة والنَّعيم في القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد ..
* ما الفرق بين النِّعمة والنَّعيم في الاستعمال القرآني؟
- النِّعمة "بالكسر" اسم هيئة: قال الراغب الأصفهاني: "وبناء النِّعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان، "كالجلسة، الرِّكبة".
- ومعنى كونها اسم هيئة؛ أنها تشير إلى الحالة المستمرة الدائمة للإنسان، وتدل على هيئته وهو يتقلب في نِعم الله.
- أما النَّعيم فهو أخص من النِّعمة، وهو من زاوية النِّعمة الكثيرة -كما ذكر الراغب الأصفهاني -، وهو من حيث الإستعمال القرآني خاص بنعيم الجنّة.
الفرق بينهما إذن:
- أن النِّعمة أطلقت في القرآن على نِعم الدنيا الظاهرة والباطنة، وهي نِعم زائلة فانية.
- أما النَّعيم فقد أطلقت على نعيم الآخرة، وهو النَّعيم الخالد الباقي الذي يستمتع به المتقون في الجنّة مخلَّدين فيها.
* أمثلة على أن النِّعمة ليست نعيمًا.
- ذكرنا أن النِّعمة في القرآن خاصة بما أنعم الله به على عباده في الدنيا لا في الآخرة، سواء أكانت خيراً مادياً كالمال، والجاه، والصحة، أو هداية وإرشاداً إلى الصواب والتوفيق للعمل به.
- وقد جاء بهذا المعنى في تسعة وأربعين موضعاً مضافة إلى الله -سبحانه-، أو إلى ضميره، أو مقطوعة عن تلك الإضافة؛ لكنها منسوبة إلى الله بطريق آخر من طُرق التعبير غير الإضافة.
 ولنذكر بعض مواضعها في القرآن الكريم:
- قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].
- قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزَّمِل:11].
- قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20].
- قوله تعالى: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
- قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18].
فهذه مواضع يستخدم
فيها القرآن كلمة "النِّعمة "مراداً
بها ما أنعم الله به في الدنيا، وهكذا في جميع مواضع استعمالات هذه الكلمة سواء
أكانت النون مفتوحة، أو مكسورة، والجمع فيها مثل المفرد، وأمثلة ذلك:
- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً .... الآية} [لقمان:20].
- قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
- قوله تعالى: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 121].
- وجاءت "نَعْمَاءَ" خاصة بالدنيا في سورة هود في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود:10].
أما كلمة
"النَّعيم" فقد جاء ذكرها في القرآن فيما أنعم الله
به على عباده المقرَّبين في الآخرة، ونذكر أمثلة على ذلك منها:
- قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:21].
- قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17].
- قوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89].
- قوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج:38].
- قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].
- قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:65].
- قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج:56].
- قوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85].
- قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
فلا خلاف بين
المفسرين في المراد بــ "النَّعيم" في هذا المواضع؛ إلا الموضع الأخير
في سورة التكاثر فقد ذهبوا يخصونه بنعيم الدنيا، وتأولوا ذلك على عدة وجوه نذكر منها
ما يلي:
* معنى "النَّعيم" في سورة التكاثر.
معنى قول الله
تعالى : {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
 أي:
ثم ليسألنكم الله عز وجل عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا؛ ماذا عملتم فيه؟، ومن
أين وصلتم إليه؟، وفيم أصبتموه؟، وماذا عملتم به؟ [تفسير الطبري].
 اختلف أهل التفسير في المقصود من النَّعيم
المسئول عنه على أقوال منها :
- الصحة والأمن .
- العافية .
- الصحة والفراغ .
- الإدراك بحواس السمع والبصر .
- بعض ما يطعمه الإنسان ويشربه .
- الغداء والعشاء .
- شبع البطون.
- كل ما تلذاه الإنسان في الدنيا من شيء .[من تفسير الطبري، القرطبي].
 والقول الصحيح في ذلك هو أن النَّعيم المذكور
في الآية عام يشمل كل ما يتنعم الإنسان به، فيدخل فيه كل أصناف النِّعم من طعام،
وشراب، وملبس، وسكن، وصحة، وعافية، وحواس، وغير ذلك .
- قال الطبري في تفسيره: "والصواب من القول في ذلك أن يقال : "إن الله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النَّعيم، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النَّعيم دون نوع، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلهم كما قال عن جميع النَّعيم، لا عن بعض دون بعض" انتهى .
- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي الْعَبْدَ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ) .أخرجه الترمذي.
- وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ) أخرجه الترمذي.
- ليس من النَّعيم المسئول عنه يوم القيامة ما يضطر إليه المرء من طعام يسد به جوعته، أو ملبس يستر به عورته، أو مسكن يتقي به الحر والبرد، أما ما زاد عن حد الاضطرار والاحتياج الشديد فهو من النَّعيم المسئول عنه .
 
- السؤال عن النَّعيم يَعُم المسلم والكافر، قال الماوردي: "وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا والآخرة ، وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية" [تفسير القرطبي].
- قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} الذي تنعمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره؟، وأديتم حق الله فيه، ولم تستعينوا به على معاصيه، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل، أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما استعنتم به على المعاصي، فيعاقبكم على ذلك، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20].
وقال
الله تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ}.
فاللهم
لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك على نِعمَك الظَّاهرة والباطنة، وعلى
نِعمَة الإيمان والإسلام وكفى بها نِعمَة.
 



تعليقات
إرسال تعليق