شرح معاني صفات القرآن .. الجزء الأول
- من دلائل فضل القرآن الكريم تعدّد أسمائه وصفاته.
- إن التفكر في معاني أسماء القرآن وصفاته، وتأمّل دلائلها العظيمة، وآثارها المباركة يفتح للمؤمن أبواباً من اليقين النافع الذي يجد أثره في قلبه ونفسه، ويعرّفه بفضله وعُلُوِّ قَدْرِهِ وَعِظَمِ شأنه، ويرغّبه في تلاوته وتدبّره واتّباع هداه.
- وصف الله كتابه بصفات كريمة وجليلة، فوصفه بأنه عليّ، حكيم، مجيد، عزيز، كريم، عظيم، مبارك، قيّم، بصائر، هدى، نور، بيان، مبين، ذكر، ذكرى، تذكرة، موعظة، شفاء، رحمة، بشرى.
- وفي هذا الجزء سيتم شرح بعض ما جاء من صفات القرآن الكريم، ونكمل في الجزء القادم بإذن الله الجزء الثاني من صفات القرآن الكريم.
* وصفه بأنه عليٌّ.
- قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:4]، هذا الوصف يشمل:
- - علوَّ قدره ومنزلته.
- - علو صفاته.
- - تنزهه عن الباطل والاختلاف والتناقض والضعف وسائر أوصاف النقص.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:4]: "بَيَّنَ شرفَه في الملأ الأعلى، ليشرِّفَه ويعظِّمَه ويطيعَه أهلُ الأرض".
* وصفه بأنه حكيم.
هذا الوصف
يتضمن ثلاثة معانٍ:
- أحدها: أنّه مُحكم لا اختلاف فيه ولا تناقض، كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء:82].
- الثاني: أنّه حاكم، فهو حاكم على الناس في جميع شؤونهم، وحاكم على ما سبقه من الكتب ومهيمن عليها، وناسخ لها وشاهد بصدق ما أنزل الله فيها كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}[المائدة:48]، وهو حاكم فيما اختلف فيه أهل الكتاب قبلنا كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[النمل:76]، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}[المائدة:49].
- - الثالث: أنه ذو الحكمة البالغة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}[الإسراء:39]، وقد جمع الله فيه من جوامع الكلم المبينة لأصول الدين وفروضه وآدابه ومحاسن الأخلاق والمواعظ والحقوق والواجبات والأمثال والقصص الحكيمة ما لا يوجد في كتاب غيره؛ فمن أخذها وعمل بها فقد أخذ الحكمة من أعظم مصادرها وأقربها وأيسرها.
- وفي تفسير قول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة:269]، قال أبو الدرداء في تفسير الحكمة: "قراءة القرآن والفكرة فيه" رواه ابن ابي حاتم.
* وصفه بأنه مجيد.
هذا الوصف يتضمن معنيين:
- - أحدهما: أنه المُمَجَّد؛ أي الذي له صفات المجد والعظمة والجلال التي لا يدانيها أي كلام، المتنزه عما يقوله الجاهلون مما لا يليق به كدعوى بعض الكفار أنه سحر، أو شعر، أو من كلام البشر.
- وذلك أن وصف المجد في اللغة يستلزم عدداً من صفات الكمال والجلال والعظمة التي يكون بها الموصوف مجيداً، فكل صفة عظيمة يوصف بها القرآن هي من دلائل مجده.
- الثاني: أنه الممجِّد لمن آمن به وعمل بهديه؛ فيكون لأصحاب القرآن من المجد والعظمة والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة ما لا ينالونه بغيره أبداً.
- كما في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين».
- - قال الشافعي رحمه الله: "من قرأ القرآن عظمت قيمته"، لا تجد كتاباً يعظِّمُ تاليه كما يعظِّم القرآن أصحابَه ويشرفهم ويكرمهم ويعلي منزلتهم.
- روى الإمام أحمد والنسائي وجماعة من أهل الحديث بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة، عن أبيه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عز وجل أهلين من الناس». قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن؛ أهل الله وخاصته»، فأضافهم الله إلى كتابه وأضافه إلى نفسه جل وعلا، وسماهم أهله.
* وصفه بأنه عزيز .
وأما وصفه بأنه عزيز؛ فيتضمن:
فأما عزة القَدْرِ؛ فلأنه أفضلُ الكلام وأحسنُه، يعلو ولا يعلى عليه، ويَحْكُم ولا يُحْكَم عليه، يغيِّر الدُّوَلَ والأحوال ولا يتغير، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر:23].
- وهو عزيز القدر عند الله، وعند الملائكة، وعند المؤمنين.
- أما عزة قدره عند المؤمنين فبينة ظاهرة، ولا توجد أمة من الأمم تعتني بكتابها وتجله كما يجلّ المسلمون القرآن.
- قال أبو المظفر السمعاني: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}[فصلت:41]. أي: كريم على الله، وروي ذلك عن ابن عباس.
وأما عزة غلبته؛ فلأن حججه غالبة دامغة لكل باطل كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}[الأنبياء:18].
- حجج القرآن أحسن الحجج وأبينها وأبعدها عن التكلف والتعقيد، وأقربها إلى الفطرة الصحيحة والعقل الصريح، وأعظمها ثمرة وفائدة، مَنْ عقلها تبين له الهدى، واستبانت له سبل الضالين، ومَنْ حاجَّ بها غَلَب، ومن غَالبها غُلِب.
- ومن عزة غلبته أنه غلب فصحاء العرب وأساطين البلاغة فلم يقدروا على أن يأتوا بمثله، ولا بمثل سورة واحدة منه.
- وقد تحدى الله المشركين الذين يزعمون أنه من أساطير الأولين وأنه قول البشر أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا حتى أقروا بذلك وهم صاغرون كما قال الوليد بن المغيرة على كفره: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدِق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر" رواه البيهقي في دلائل النبوة.
وأما عزة الامتناع؛ فلأنَّ الله تعالى أعزَّه وحفظه حفظاً تاماً من وقت نزوله إلى حين يقبضه في آخر الزمان كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9].
* وصفه بأنه كريم.
تفصيل وصفه
بالكرم يرجع إلى خمسة معان في لسان العرب:
المعنى الأول: كرَم الحُسْن؛ ومن ذلك قول الله تعالى: {.... وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}[يوسف:31]، والقرآن كريم بالغ الحسن في ألفاظه ومعانيه.
المعنى الثاني: كَرَم القَدْرِ وعلوّ المنزلة؛ فتقول: فلان كريم عليّ، أي ذو قَدْر ومكانة عالية عندي.
- والمقصود أن القرآن كريمُ القَدْرِ عند الله تعالى، وعند المؤمنين، وبيان دلائل كَرَمِ قَدْرِهِ لو أفاض المتحدّث فيه لاستدعى ذلك منه سِفْراً كبيراً.
- ومن المحمول على إرادة معنى رفعة القَدْر -وإن كان على سبيل التهكّم- قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49].
المعنى الثالث: كَرم العطاء؛ وهو أشهر معانيه، حتى غلب على أفهام كثير من الناس فظنوه محصوراً فيه، وليس الأمر كذلك؛ والقرآن كريم بهذا المعنى لكثرة ما يصيب تاليه من الخير والبركة بسببه، وكثرة ثواب تلاوته وحسن آثارها.
المعنى الرابع: المكَرَّم عن كلّ سوء، وهو فرع عن كرم القَدْر، وأصله أن بناء فعيل يأتي في اللغة أحيانًا على معنى المفعول؛ فيأتي الكريم بمعنى المكرَّم.
المعنى الخامس: المكرِّم لغيره، وهو من آثار كرم العطاء وكرم الحسن وكرم القدْر، وأصله أن بناء فعيل يأتي في اللغة أحيانًا على معنى الفاعل؛ فيأتي الكريم بمعنى المكرِّم.
- وكلام المفسرين في معنى وصف القرآن بأنه كريم يدور حول هذه المعاني، وكل جملة من هذه الجمل لو تأمل الناظر دلائلها وآثارها لَنْفتح له من أبواب العلم والإيمان والفضل العظيم ما لا يكاد ينقضي منه العجب.
- ولعل هذا يطلعك على بعض معاني القسم العظيم الجليل الذي أقسمه الله تعالى في سورة الواقعة إذ قال جلَّ وعلا: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}.
فينبغي لكل
مؤمن أن يستشعر عظمة هذا القَسَم، ويجتهد في إدراك نصيبه من هذا الكَرَم!
* وصفه بأنه عظيم.
وصف القرآن بأنه عظيم يتضمن:
فالقرآن عظيم القَدْرِ في الدنيا والآخرة.
فأما عظمة قدره في الدنيا فتتبين من وجوه كثيرة منها:
- - أنه كلام الله تعالى.
- - إقسام الله تعالى به.
- - كثرة أسمائه وأوصافه الدالة على عظمة قدره.
- - أنه حاكمٌ على ما قبله من الكتب، وناسخ لها، ومهيمن عليها.
- - أنه فرقان بين الهدى والضلالة، والحقّ والباطل.
- - أنه يهدي للتي هي أقوم.
- - أنه مصدر الأحكام الشرعية التي بها قيام مصالح العباد، وإليها يتحاكمون في فضّ منازعاتهم وحلّ مشكلاتهم ومعضلاتهم.
- - أن الله خصّه بأحكام في الشريعة تبيّن حرمته وجلالة شأنه.
وأما عظمة قدره في الآخرة فمن دلائلها:
- - أنه يظلّ صاحبه في الموقف العظيم.
- - أنه شافع مشفّع وماحل مصدّق.
- - أنه يحاجّ عن صاحبه ويشهد له.
- - أنه يرفع صاحبه درجات كثيرة.
- - أنه يثقّل ميزان أصحابه بكثرة ما يجدون من ثواب تلاوته.
وأمّا عظمة صفاته فبيانها من وجهين:
- - الوجه الأول: أن كلّ صفة وصف بها القرآن؛ فهو عظيم في تلك الصفة؛ فكرمه عظيم، وبركته عظيمة، ومجده عظيم، وعلوّه عظيم، ونوره عظيم، وهداه عظيم، وشفاؤه عظيم، وفرقانه عظيم إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته التي اتّصف في كلّ صفة منها بالعظمة فيها.
- - والوجه الثاني: أن كثرة أسمائه وصفاته العظيمة دليل آخر على عظمته.
* وصفه بأنّه مبارَك.
وأما وصفه بأنّه مبارَك؛ فقد ورد في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص:29].
- مبارَك اسم مفعول يفيد أنَّ الذي باركه هو الله تعالى، ومعنى باركه أي أودع فيه البركة، وهي الخير الكثير المتزايد؛ فلا ينقص خيره، ولا يذهب نفعه، ولا تضعف ثمرته؛ بل خيره في ازدياد وتجدّد على مرّ القرون والأعصار.
- وكون الذي باركه هو الله تعالى له آثار عظيمة على بركته؛ فهي بركة من العليم القدير الحكيم الواسع الأكرم؛ فاتّسعت بركته وعظمت، حتى كان مباركًا في كل شيء فلا يحرم بركته إلا شقيّ محروم.
وأنواع بركات القرآن كثيرة متنوّعة، فألفاظه مُبَارَكة، ومعانيه مُبَارَكة، ودلائله مُبَارَكة، وحيثما كان فهو مُبَارَك لمن آمن به واتّبع هداه، فمن بركاته:
- - هداياته العظيمة التي يهدي بها للتي هي أقوم في كلّ شيء.
- - شفاؤه لما في الصدور، ولأدواء النفوس والأبدان.
- - كثرة ثواب تلاوته وتنوّعه.
- - ما يفيد من العلم والحكمة واليقين، والبصيرة في الدين.
- - ما يحصل به من جلاء الحزن، وذهاب الغم، ونور الصدر، وطمأنينة القلب، وسكينة النفس.
- - ما يكون لتاليه من زيادة الإيمان، وصلاح البال، وذهاب كيد الشيطان.
- - عِزّة أصحابه باتباعه، وثباتهم على الحق بتمسّكهم به، وتبصّرهم به في مواضع الفتن، وما يحصل لهم به من الفرقان العظيم بين الحق والباطل، والخروج من الظلمات إلى النور.
- - أنه يرفع أصحابه، ويكرمهم، ويكون لهم بسببه قَدْرٌ عظيم ومنزلة عالية.
- - أنه مبارك حيثما حَلّ؛ فالبيت الذي يُتلى فيه يكثر خيره ويتّسع بأهله، والصدر الذي يحفظه يتّسع وينفسح، والمجلس الذي يُتلى فيه تتنزّل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفّه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، حتى إن الوَرَق الذي يُكتب فيه لَيَكون له شأن عظيم بعد تضمّنه لآياته، وتكون له حرمته وأحكام الكثيرة في الشريعة.
وأما بركاته في الآخرة فبركات عظيمة جليلة، فهو مُبَارَك على المؤمن في قبره، وفي الموقف العظيم، وفي الحساب، وفي الميزان، وفي الصراط، وعند ارتقائه في درجات الجنة!
* وصفه بأنّه قيّم.
وأما وصفه بأنّه قيّم؛ فقد ورد في قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا .... }[الكهف:1-2].
ولوصفه بالقيّم ثلاثة معاني:
- - المعنى الأول: أنه مستقيم لا عوج فيه، ولا خلل، ولا تناقض، ولا تعارض، بل يصدّق بعضه بعضاً، ويبيّن بعضه بعضاً، يأتلف ولا يختلف، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.
- قال الأمين الشنقيطي: "أي لا اعوجاج فيه ألبتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني، أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه".
- - المعنى الثاني: أنه قيّم على ما قبله من الكتب ومهيمن عليها، وشاهد بصدق ما أنزل الله فيها.
- - المعنى الثالث: أنه القيّم الذي به قَوَام أمور العباد وقيام مصالحهم وشرائعهم وأحكام عباداتهم ومعاملاتهم، ويهديهم للتي هي أقوم في جميع شؤونهم.
* وصفه بأنّه بصائر.
- وأما وصفه بأنّه بصائر، فقد ورد في مواضع عدة، منها قوله تعالى: {.... هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:203].
- والبصائر جمع بصيرة، وهي معرفة حقيقة الأمر وعاقبته، ويتفرّع على هذه المعرفة تبيّن الصواب والخطأ فيما يقع في ذلك الأمر.
- والبصيرة مفتاح الهداية، والنجاة من الغواية، وسبب الثبات على الحقّ، واجتناب الباطل، وأصلها ما ينعقد في القلب من صحّة المعرفة.
- وسمّي القرآن بصائر؛ لأنّه يبصّر بالحقائق في كل ما يُحتاج إليه، فيبصّر بالحقّ ويبيّنه، ويبيّن حسن عاقبته وجزاء أهله، وما يعترضهم من الابتلاءات والفتن، ويبيّن لهم طريق النجاة وأسباب الهداية، ويبصّر بقبح الباطل وشؤمه، وسوء عاقبة أهله، وسبب اغترارهم به، وطرق نجاتهم منه قبل فوات الأوان.
- ويبصّر المؤمن بكيد عدوّه المتربّص به، ومداخل تسلّطه عليه، وكيف يتّقي شرّه وينجو من كيده، ويبصّر المؤمنين بأعدائهم من الكفار والمنافقين، وطرقهم في المكر والكيد والتضليل، ويبيّن لهم سبيل السلامة من شرّهم، وما يتحقّق لهم به النصر والتمكين إن تمسّكوا به.
- ويبصّر المؤمن بحقيقة هذه الدنيا ومقاصد إيجادنا فيها، وما فيها من سنن الابتلاء.
- ويبصّره بأدواء القلوب وعلل النفوس وأسباب شفائها وطهارتها وزكاتها.
- ويبصّر بأحكام الدين وشرائعه، وما تصلح به شؤون العباد في دينهم ودنياهم.
- ويبصّر السالك بما يتقرّب به إلى ربّه جلّ وعلا، وكيف ينال محبّته ورضوانه، وكيف يبلغ -في كلّ شأن من شؤونه- مرتبة الإحسان التي هي أعلى المراتب، وجزاؤها أحسن الجزاء، إلى غير ذلك من أنواع البصائر المباركة التي عمّت كلّ ما يحتاجه المؤمن من البيّنات والهدى.
- بصائر القرآن كالكنوز الكثيرة في البحر العظيم؛ كلما أقبل عليها مَن يعرف قدرها وتأمّلها وقلّب النظر فيها واكتسب منها ما اكتسب وجدها تكثر وتتسع وتتنوّع حتى يوقن بأنّه لا يحيط بها من كثرة أنواعها وبركاتها، ووجد في كلّ بحث وتأمّل ما يسرّه ويبهجه مما لا ينقضي من العجب.
- وأما الكافر والمنافق فإنّه ربّما عرضت له البصيرة من القرآن في الشيء العظيم البيّن وعرفه ثمّ أنكره فحُرِم من بركات بصائر القرآن، كما حُرِم الذين من قبل وكانوا مستبصرين؛ فزاغوا بعدما عرفوا الحقّ، وحُرِمُوا التوفيق لتكذيبهم وإعراضهم، وصرفوا بما افتتنوا به عن التبصّر بما أنزل الله إليهم، قال الله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}[العنكبوت:388].
- وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}[الإسراء:101-102].
- وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل:13-14].
- ولذلك اختلف العلماء في معنى البصيرة؛ فمنهم من فسّرها بالاعتبار وهداية التوفيق، ومنهم من فسّرها بهداية الدلالة والإرشاد.
- والصواب أنّ البصيرة جامعة للمعنين فأصلها من هداية الدلالة والإرشاد فمن آمن بها وتبصّر بها ازداد هداية وتوفيقًا لمزيد من التبصّر النافع حتى يورثه اليقين والإمامة في الدين.
- ومن أعرض عما تقتضيه بصائر القرآن من العمل واتّباع الهدى والإقبال على تعرّف بصائر القرآن والانتفاع بها استحقّ العقاب على تولّيه وإعراضه بأن يُحَرم فهم القرآن والتبصّر به، ويشغله ما افتتن به من لهو الدنيا وغرور الأمنيات ووساوس الشيطان عن الانتفاع ببصائر القرآن وازدياد العلم بها.
- وقد اجتمع المعنيان في قول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}[الأنعام:104].
- فالمُبصر هو المنتفع ببصائر القرآن التي تدلّ على الهدى وتعرّفه به، والعمي هو الذي عوقب بالعمى لتعاميه وشدّة نفوره عن التبصّر ببصائر القرآن.
- قال ابن القيم رحمه الله: "قال ابن الأعرابي: "البصيرة الثبات في الدين"، وقيل: البصيرة العبرة، كما يقال: أليس لك في كذا بصيرة؟ أي: عبرة، قال الشاعر: في الذاهبين الأوّلين ... من القرون لنا بصائر.
- والتحقيق أنّ العبرة ثمرة البصيرة؛ فإذا تبصَّر اعتبر؛ فمن عدم العبرة فكأنَّه لا بصيرة له، وأصل اللفظ من الظهور والبيان؛ فالقرآن بصائر: أي أدلة وهدى وبيان يقود إلى الحق ويهدي إلى الرشد.
* وصفه بأنّه هدى.
- وأمّا وصفه بأنّه هدى؛ فقد ورد في مواضع كثيرة من القرآن؛ منها قوله تعالى في أوّل سورة البقرة؛ قوله تعالى: {ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين}[البقرة:1-2].
- ومجيء هذه الآية في أوّل المصحف بعد الفاتحة التي فيها سؤال الهداية تنبيه على تضمّن القرآن للهداية التي يسألها المؤمنون وترغيب في الاهتداء به.
وهداية القرآن على مرتبتين:
- - المرتبة الأولى: هداية عامّة لجميع الناس، تدلّهم على الحق، وعلى صراط الله المستقيم؛ فيعرفون به ما يجب عليهم وما يحرم، ويتبيّنون به ما تقوم به الحجّة عليهم، وما ينذرون به إذا خالفوا هدى القرآن، وما يبشّرون به إذا اتّبعوا هداه، كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}[الزمر:41].
- المرتبة الثانية: الهداية الخاصّة للمؤمنين التي يوفّقون بها لفهم مراد الله تعالى، ولما يتقرّبون به إليه؛ فيزيدهم هدى إليه.
- ومن اتّخذ القرآن دليلاً له إلى الله تعالى أبصر به السبيل الذي يقرّبه إليه ويوجب له محبته ورضوانه وفضله العظيم بما أوجبه الله على نفسه من ذلك، كما قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[المزمل:19].
تعليقات
إرسال تعليق