شرح معاني صفات القرآن .. الجزء الثاني
أهلًا بكم متابعي مدونة -طريقك للجنة-، تحدثنا في اللقاء
السابق وهو "الجزء الأول" من شرح معاني صفات القرآن الكريم؛ عن عشر صفات من صفات القرآن الكريم، ونكمل في هذا الجزء بإذن الله شرح
صفات الله تعالى لكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
* وصفه بأنّه نور.
أمّا وصفه
بأنّه نور؛ فقد ورد في مواضع من القرآن منها:
- قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}[النساء:174].
- قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:15-16].
- فهو نور يضيء الطريق للسالكين؛ ويذهب عنهم ظلمة الشرك والعصيان وآثارها.
- فمن استضاء بنور القرآن أضاء له سبيله، وأبصر الحقائق، وعرف ما يأتي وما يذر، وكان على بيّنة من ربّه؛ حسن المعرفة بصراطه المستقيم، وبكيد الشيطان الرجيم، وعلل النفس المُردية.
* وصف الله نور القرآن بأنه نور مبين كما قال الله تعالى: { ..... وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}[النساء:174].
وقد فسّر
بمعنيين صحيحين:
- - أحدهما: أنه مُبين بمعنى بَيّن أي ظاهر واضح يعرف أنه هو الحق لنوره الذي يميّزه عن غيره، ولهذا المعنى نظائر كثيرة في القرآن الكريم وفي كلام العرب.
- - الثاني: أنه مُبين بمعنى مُبيِّن؛ لما فيه من بيان الحق والهدى للناس.
- والمستنير بنور القرآن يتبيّن به حقائق الأمور، وسنن الابتلاء، وعواقب السالكين، ولا تغرّه مكائد الأعداء، وظواهر الفتن الخدّاعة، وحيل النفس الخفيّة، في حصن حصين من فتن الشبهات والشهوات لما يرى من قبحها وسوء عاقبتها إذ تبدّت له بوجهها الحقيقي المنفّر؛ يبصر فيها لا كبصر غيره، ويسمع فيها لا كسمع غيره؛ {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[هود:24].
- وهو بهذا البصر المستنير بنور القرآن في حياة حقيقية؛ قد خرج من أسر الظلمات، ووجد حقيقة الحياة وطعمها وتبيّنت له غايته التي يسعى إليها، وطريقه الذي يوصله إلى غايته، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:122].
- وهذا يطلعك على تفاوت الناس في الاستنارة بنور القرآن؛ وأعظمهم نصيباً منه أشرحهم صدراً وأزكاهم نفساً وأحسنهم بصيرة؛ قد انصرفت همّته إلى إحسان العمل وتجنّب الإثم؛ فازداد هداية وانشراحًا واستنارة بنور الله، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الزمر:22].
* وصفه بأنّه بيان ومُبيِّن.
أمّا وصفه بأنّه بيان ومبين؛ فقد ورد في مواضع كثيرة من القرآن الكريم منها:
- قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 138]، على القول بأن مرجع اسم الإشارة هو القرآن الكريم، وهو قول الحسن البصري وقتادة.
- وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} في ثلاثة مواضع "يوسف،الشعراء،القصص".
- وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} في موضعين "الزخرف،الدخان".
* وبيان القرآن
أحسن البيان وأعظمه وأجلّه في ألفاظه ومعانيه وهداياته.
- فهي على أفصح لغات العرب وأحسنها، لا تعقيد فيها ولا تكلف ولا اختلال، حسن الجريان على اللسان بلا سآمة ولا تعسّر.
- له حلاوة عند سماعه، وحلاوة عند تلاوته، يقرؤه الكبير والصغير، ويحفظه من يشاء منهم لتيسر ألفاظه وحسنها.
- وقد تحدّى الله به أساطين فصحاء العرب، وهم متوافرون على أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله فلم يستطيعوا، ولو اجتمع أهل الأرض كلّهم على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا.
* وأما بيان معانيه.
- فهو محكم غاية الإحكام؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتعارض، ولا يتناقض، ولا يختلف؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء:82].
* وأما بيان هداياته.
- فبيان هداياته ودلالتها على ما يحبّه الله ويرضاه، وعلى بيان الحقّ ونصرته، وعلى كشف الباطل ودحضه؛ وإرشاده إلى صراط الله المستقيم؛ فأمر ظاهر غاية الظهور.
- ولظهور بيانه للهدى أقام الله به الحجّة على الإنس والجن؛ وأمر نبيّه أن يذكّر به، وينذر به، ويبشّر به؛ فأمره أن يقول: {..... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ .....}[الأنعام:19].
* وصفه بأنه ذِكْرٌ وذِكرى وتَذكرة.
وأما وصفه بأنه ذِكْرٌ وذِكرى وتَذكرة؛ ففي آيات كثيرة من كتاب الله تعالى؛ بل جعل الله من أعظم مقاصد إنزال القرآن التذكير به.
- قال الله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}[طه:1-3].
- وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}[الأنبياء:50].
- وقال تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف:2].
* وتذكير القرآن على درجتين:
- - الدرجة الأولى: تذكير عامّ تقوم به الحجّة؛ ولا ينفع إلا من استجاب لله عزّ وجلّ واتّبع هداه، كما قال الله تعالى: {....... وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ......}[الأنعام:70].
- وهذا التذكير من استجاب له هداه الله به إلى صراطه المستقيم؛ ومن أعرض عنه وزهد فيه انتقم الله منه، وعاقبه بالحرمان من فقهه والانتفاع به؛ وتلك أعظم العقوبات في الدنيا؛ كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف:57].
- - الدرجة الثانية: التذكير النافع؛ وهو تذكير خاصّ بالمؤمنين؛ كما قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55].، وقال: {.... وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}[غافر:13].، وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10].
- والخشية والإنابة من أعمال الإيمان، وكلما كان العبد أكمل إيمانًا كان نصيبه من التذكّر أعظم وأنفع؛ ولذلك كان نصيب أهل الخشية والإنابة من ذلك أحسن النصيب.
* وتذكير
القرآن له أنواع كثيرة، فمنها:
- - تذكير العبد بربّه جلّ وعلا، وتعريفه بأسمائه وصفاته الموجبة لمحبّته؛ فيحبّه ويعظّمه ويتقرّب إليه.
- - تذكيره بفضله ورحمته وعظيم ثوابه في الدنيا والآخرة؛ فيرجوه ويتقرّب إليه.
- - تذكيره بشدّة عقوبته وبطشه؛ فيخافه ويخشاه، ويتقرّب إليه خوفًا من عقابه.
* وهذه الأركان
الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء عليها مدار عبودية القلب، ومنها:
- - تذكير العبد بنعم الله وآلائه؛ فيذكره ويشكره ويحبّه.
- - تذكيره بحقيقة الدنيا، والنفس، وكيد الشيطان، وأعداء الدين؛ فيعرف حقائق ذلك، وينجو من فتن عظيمة مضلّة.
- - تذكيره بالموت وسكرته، وبالقيامة وأهوالها، وبالحساب والجزاء، والجنّة والنار؛ فيستعدّ للقاء الله تعالى، ويتيقّن قصر مدّة بقائه في هذه الدنيا مهما عُمّر فيها.
إلى غير ذلك
من الأنواع التي عليها مدار تذكير القرآن.
* وصفه بأنّه موعظة.
أما وصفه بأنّه موعظة، فقد ورد في آيات من القرآن الكريم، منها:
- قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:57-58].
- والموعظة هي التذكير بما يليّن القلب؛ ليزدجر عن السوء فيسلم من عقوبته ومغبّته، ويحذر فوات الخير ويتبيّن خطر التفريط فيه فيبادر إليه ليغنم.
- ومواعظ القرآن أحسن المواعظ وأنفعها، وأعظمها أثراً؛ فهي مواعظ مبناها على العلم التامّ والرحمة والحكمة، وغاياتها إرشاد الناس لما فيه خيرهم وعزّهم ونجاتهم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}[النساء:58]؛ ومن تأمّل مواعظ القرآن وجدها دالّة على الخير والرحمة والإصلاح والنَّهي عن السوء والفساد والمنكرات.
- ومهما بلغ حال العبد من السوء وارتكاب الموبقات إذا فعل ما وعظه الله به في كتابه، وصدق في ذلك؛ ظهر أثر مواعظ القرآن على قلبه ولسانه وجوارحه، حتى يهتدي إلى صراط الله المستقيم وينال فضله العظيم ويخرج مما كان فيه من الظلمات والضلالات والموبقات.
- وقد قال الله تعالى في المنافقين الذين هم شرّ الناس منزلةً؛ لجمعهم بين الكفر والنفاق وارتكابهم كثيراً من أعمال السوء القبيحة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[النساء:66-68].
- وهذا يدلّ على أنّ مواعظ القرآن ما حلّت في قلب إلا أثمرت فيه هداية، وصلاحًا، وخيرًا عظيمًا، وأنّ الشأن كلّ الشأن هو في اتّعاظ العبد بمواعظه، وأن الخسران المبين هو في الإعراض عنها.
* وصفه بأنّه شفاء.
أمّا وصفه بأنّه شفاء؛ فقد ورد في مواضع من القرآن؛ منها:
- قول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82].
- فوصفه الله بأنّه شفاء؛ وجعل هذا الشِّفاء منحة خاصّة للمؤمنين؛ ففيه شفاء لنفوسهم من عللها وأدوائها التي مرجعها إلى أمرين:
- - ظلمها بتعدّيها حدود الله؛ فيصيبها من مغبّة مخالفتها لهداه ما تشقى به.
- - جهلها بما ينفعها ويزكّيها ويكمّلها.
- والأصل في وصف الإنسان أنّه ظلوم جهول؛ كما قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72]،أي أن هذا من طبعه وعادته؛ فيتعدّى حدود الله اتّباعًا لهواه.
- - فيظلم نفسه بما يجرّ عليها من البلاء والعلل والأدواء والعناء والشقاء.
- - ويجهل فينصرف إلى تناول ما يضرّه ولا ينفعه؛ ويشقيه ولا يشفيه.
- وتتنوّع مظاهر الشقاء في النفس البشرية وتتفاوت بحسب بعدها عن هدى الله؛ وينشأ فيها من علل الجهل والظلم، والعُجْبِ والكبْر، والشكّ والحيرة، والشحّ والبخل، والحرص والحسد، والعشق والتعلقّ، وغيرها من العلل التي تجرّ على من اتّصف بها أو ببعضها ألواناً من الشقاء العظيم.
* وتلك العِلل
تفسد التصوّر والإرادة.
- - فيحصل بفساد التصوّر افتتان بفتن الشبهات؛ فيرى الباطل حقّاً، والحقّ باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً؛ ويزداد بذلك عذاب حيرته وشكّه وظلمة قلبه.
- - ويحصل بفساد الإرادة افتتان بأنواع من الشهوات، وتعلّق القلب بها حتى يجد من أليم عذابها وعظيم مصابها ما تشقى به حياته، ويظلم به فؤاده.
- واللبيب الموفّق إذا أبصر ما أصاب الناس من علل نفوسهم وأدوائها وما أنتجته لهم تلك العلل من عذاب وشقاء أدرك أنّه لا مخرج منها إلا بشفاء يأتي من الله.
- وقد أنزل الله عزّ وجلّ هذا القرآن العظيم شفاءً للمؤمنين الذين آمنوا به واتّبعوا ما أنزل الله فيه من الهدى؛ فتحقّق لهم من الشفاء بقدر ما حقّقوا من الإيمان واتّباع الهدى.
- ومن أبصر ما تقدّم أدرك عظيم منّة الله تعالى بهذا الشفاء العظيم؛ الذي حرم منه من حرم؛ فشقي في الدنيا والآخرة، وسعد به من عرف قدره وعظّمه فاغتبط به في الدنيا مع ما يرجو من فضل الله العظيم في الآخرة.
* وقد جعل الله
مع هذا الشفاء العظيم الذي هو المقصود الأعظم من الشفاء شفاءً من نوع آخر، فهو
رُقيَة نافعة من العلل والأدواء التي تصيب الروح والجسد.
- - فكم شُفي به من عليل عجز الأطبّاء عن علاجه؛ ليتبيّن الناس آية من آيات الله فيه؛ وأنّ الله إذا شاء أن يشفي عبده فلا يعجزه شيء، ولا يردّ فضله عنه أحد.
- - وكم أُبطل به من سحرٍ قد أضرّ وأنكى.
- - وكم تعافى به من معيون ومحسود وممسوس وموسوس.
- - وكم اجتمع به شمل أسرة بعد تفرّق، وصلح به حال قوم بعد فساد أمرهم وتفرّقه، وكم سكنت به من نفوس، واطمأنّت به من قلوب، وانشرحت به من صدور، وصلحت به من أحوال.
- - وكلّ ذلك من الدلائل البيّنة على ما جعل الله فيه من الشفاء المبارك.
* وصفه بأنه رحمة.
أمَّا وصفه بأنه رحمة؛ فقد ورد في آيات كثيرة؛ منها:
- قول الله تعالى: {.... هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:203].
- - فهو رحمة من الله تعالى؛ لما يدلّ به عباده على النجاة من سخطه وعقابه وأليم عذابه.
- - ورحمة لهم لما يفتح لهم به من أبواب الخير الكثير، والفضل العظيم، والفوز المبين؛ برضوانه وثوابه وبركاته.
- - ورحمة لهم لما يحجزهم به عمّا فيه ضررهم مما تقبل عليه نفوسهم متبعة أهواءها لجهلها وضعفها.
- - ورحمة لهم لما يعصمهم به من الضلالة، ويخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة.
- - ورحمة لهم لما يبيّن لهم من الحقائق، ويعلّمهم من الحكمة، ويصرّف لهم فيه من الآيات المبصّرة، والأمثال المذكِّرة.
- - ورحمة لهم لما يعرّفهم به من أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فتفضي إليه القلوب بمحبّتها وتعبّدها له جل وعلا بأنواع العبودية؛ التي حاجة القلب إليها أعظم من حاجة البدن إلى الغذاء؛ فإنّ في القلب تعطّشاً لا يرويه إلا التعبّد لله والتقرّب إليه حتى يفيض عليه من فضله ورحمته وبركاته؛ فيطمئنّ بعد قلقه وانزعاجه، ويَروَى بعد تعطّشه وإنهاكه، ويتّسع بعد ضيقه وتحسّره، ويرشُد بعد حيرته وضلاله، ويسعَد بعد شقائه وعذابه.
فهذه الرحمات
الجليلة التي جعلها الله في القرآن داخلة في معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:57-58].
* وصفه بأنه بُشرى.
أمّا وصفه بأنه بُشرى، ففي مواضع من كتاب الله تعالى؛ منها:
- قول الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل:89].
- وقوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[النمل:1-2].
- وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}[الأحقاف:12].
- ووصفه بأنّه بُشرى مع التنبيه على أن التبشير من مقاصد إنزاله دليل على عظيم أثر بشاراته، وعظيم حاجة النفس البشرية للتبشير بما تنال به سعادتها وفلاحها.
- وتنويع وصف المبشَّرين به دليل على تفاضل بشاراته؛ فهو بُشرى للمسلمين، وبُشرى للمؤمنين، وبُشرى للمحسنين؛ وبين تلك المراتب من التفاضل العظيم في البشارات ما لا يعلمه إلا الله قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[آل عمران:163].
- فترتّب البشارات على العمل، وعلى بصر الله تعالى به تنبيه على معيار التفاضل، وحضّ على اغتنام أيام المهلة في الازدياد من بشاراته العظيمة.
- وكلما قوي أثر التبشير على القلب ازداد إقبالاً على ما بُشّر به؛ وحرصًا على تحقيق ما ينال به تلك البُشرى، واحترازاً مما يحول بينه وبينها؛ فيثمر له ذلك من أنواع العبودية في القلب ما يثمر:
- - فتزداد محبّة الله في قلبه لشهود منّته بتلك البشارات.
- - ويزداد الرجاء لعظيم الاشتياق لها وتيسّر سبلها مع الوعد الكريم من الرحمن الرحيم.
- - ويزداد الخوف من فواتها بعد أن تبوّأت مكانتها في القلب، وعرف قدرها وفضلها.
فيجتمع لقلب
المؤمن بتلك البشارات من المحبة والخوف والرجاء ما يكون به صلاح عبوديته لله
تعالى، وإذا صَلُحَ القلب صَلُحَ الجسد كله.
إلى هنا يكون قد وصلنا إلى بيان شرح معاني صفات القرآن الكريم.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بها .. وأن نستحضر هذه المعاني عند تلاوتنا لكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويجعلنا مِمَن يتلون القرآن حق تلاوته.
اللهم آمين ..
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تعليقات
إرسال تعليق