وقفات تربوية من سور القرآن .. سورة آل عمران والنساء
من كتاب: منتقى الآداب من تفسير السعدي
بسم الله الرحمن الرحيم
* وقفات تربوية من سورة آل عمران.
* الوقفة الأولى: كظم الغيظ.
قال
تعالى: {.......
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134].
- قوله
تعالى: {.......
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}
أي: إذا حصـل لهـم مـن غـيرهم أذيـة توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق،
الموجب للانتقام بالقول والفعل-؛ هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطِباع البشرية، بل
يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المُسيء إليهم.
*
الوقفة الثانية: التَّأسِـي
بـالنَّبيّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَم في حُسـن خُـلُقـه ورفقِـه ولينِه.
قال
تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159].
- أي: برحمـة الله لك ولأصحابك، مَـنَّ الله عليـك أن ألنـت لهـم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك وامتثلوا أمرك.
- {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أي: سيئ الخلق، {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: قاسيه، {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ.
- فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه مـن المـدح والثواب الخاص.
- والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنَفِر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرَّسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره؟!.
- ألـيـس مـن أوجـب الواجبات، وأهـم المـهمـات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة النـاس بـا يـعـاملـهـم بـه صلى الله عليه وسلم، من اللِّين وحُسن الخُلق والتأليف؛ امتثالاً لأمر الله، وجذبًا لعباد الله لدين الله عزوجل؟.
- ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله، فيجمع بين العفو والإحسان.
* وقفات تربوية من سورة النساء.
* الوقفة الأولى: الأمر بالإحسان إلى ذوي الأرحام وغيرهم.
قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء:36].
- قوله تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم، والخطاب اللطيف، والفعل الجميل، بطاعة أمرهما، واجتناب نهيهما، والإنفاق عليها، وإكرام من له تعلق بهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بها.
- وللإحسان ضدان: الإساءةُ، وعدم الإحسان؛ وكلاهما منهي عنه.
- قوله تعالى: {وَبِذِي الْقُرْبَى}؛ أيضًا إحسانًا، ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يُحسِن إليهم بالقول والفعل، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله.
- قوله تعالى: {وَالْيَتَامَى} أي: الذين فقدوا آباءهم وهم صغار، فلهم حق على المسلمين، سواء كانوا أقارب أو غيرهم، بكفالتهم، وبِرِهم، وجبر خواطرهم، وتأديبهم، وتربيتهم أحسن تربية، في مصالح دينهم ودنياهم.
- قوله تعالى: {وَالْمَسَاكِينِ}؛ وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر، فلم يحصلوا على كفايتهم، ولا كفاية مَنْ يمونون، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم بِسَدِ خلتهم، وبدفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه.
- قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي: الجار القريب الذي له حقان: حق الجوار، وحق القرابة، فلـه عـلى جـاره حـق وإحسان راجع إلى العُـرف.
- كذلك {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي: الذي ليس له قرابة، وكلما كان الجار أقرب بابـًا كـان آكـد حـقًّـا، فينبغي للجـار أن يتعاهـد جـاره بالهدية والصـدقة، والدعوة، واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيته، بقول أو فعل.
- قوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قيـل: الرفيـق في السفر، وقيل: الزوجـة، وقيل: الصاحب مُطلقًا، ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضـر والسفر، ويشمل الزوجة.
- فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصـح لـه والـوفـاء مـعـه، في اليسـر والعسـر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد.
- قوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهـو: الغريـب الـذي احتـاج في بلـد الغربـة، أو لم يحتج، فله حق على المسلمين لشدة حاجته، وكونه في غير وطنه، بتبليغه إلى مقصـوده، أو بعـض مقصـوده، [بإكرامـه، وتأنيسـه].
- قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحمَّلون وتأديبهم لما فيه مصلحتهم.
- فمَنْ قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد الله، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل، والثناء الجميل.
- ومَنْ لم يقُم بذلك فإنه عبد مُعرِض عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع للخلـق، بـل هـو مُـتَـكبِــر عـلى عبـاد الله، معجـب بنفسـه فـخـور بقوله، ولهذا قال تعالى:
- {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} أي: معجبًا بنفسه، متكبرًا على الخلق {فَخُورًا} يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله.
- فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق.
* الوقفة الثانية: التحذير من الحسد وأنه من صفات اليهود.
قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54].
- قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي:
- - هـل الحـامـل لهـم على قولهم كونهم شركاءَ لله، فيُفَضِلُون مَنْ شاءوا؟
- - أم الحامل لهـم عـلى ذلك الحسد للرَّسول وللمؤمنين، على ما آتاهم الله من فضله؟
- ذلك ليس بِبِدْع ولا غريب على فضل الله؛ {فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} وذلك ما أنعم الله بـه عـلى إبراهيم وذريته، مـن النُّبوَة، والكتاب، والمُلك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه كـ "دَاوُد وسُلَيمَان"، فإنعامه لم يزل مستمرًا على عباده المؤمنين.
- فكيف ينكرون إنعامه، بالنُّبوَة، والنَّصر، والمُلك لِمُحَمَد
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَم، أفضل الخلق وأجلهم، وأعظمهم معرفة بالله، وأخشاهم له؟!!
* الوقفة الثالثة: وجوب أداء الأمانات إلى أهلها.
قال
تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:58].
- الأَمَانَاتِ: كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها أي: كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا مَمْطولًا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال، والأسرار، والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله.
- وقد ذكر الفقهاء على أن مَن اؤْتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها، قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها، فوجب ذلك.
- وفي قوله: {إِلَى أَهْلِهَا} دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن، ووكيلُه بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديًا لها.
* الوقفة الرابعة: وجوب الحكم بالعدل.
قال تعالى: {.............. وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:58].
- وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء، والأموال، والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبَرَّ والفاجر، والولي والعدو.
- والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به، هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل، ليحكم به.
- ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه لاشتمالها على مصالح الدارين، ودفع مضارهما، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفی عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون.
تعليقات
إرسال تعليق